الـمـرأة والجنـــس في روايـــة دمـــــــــــــــلان

 

·       د . معن عبدا لباري قاسم

         

 

استحوذت قضيِِِِِِِِةِِ المرأة والجنس في نص الرواية الحيز الأكبر حتى ليخال للقارئ بأنها رواية جنسية مكسوة بالهم السياسي والاجتماعي والعكس صحيح أيضاً – وهذه سنة طبيعية شائعه في الحياة يتمثلها لنا النشاط المعرفي الإنساني في مختلف صنوفه الإبداعية ( أدب ، فنون ..الخ ) فكتابات مشاهير الأدب العالمي الروائي ( ليرمنتوف ، ديستوفسكي ، بونين ، ، بلزاك ، نيكوس  كونستزاكي ، ألبرتومورافيا، هنري ميلر ، جبرائيل غارسيا ماركيز ..ألخ ) حظت بقدر كبير من تلك الرابطة الثنائية بين الجنس والسياسة ، وأن كانت الحرية التعبيرية والوضعية للحياة الجنسية  إلى حد الإباحية في بعض تلك الأعمال الأدبية الأوربية

وعنـد مشاهير الأدب الروائي العربي نجد الكثير من التناول والاهتمام بقضايا المرأة والجنس والسياسة في أعمالهم ( نجيب محفوظ ، حنا مينا ، الطيب صالح ، غالب هلسا ...الخ .

في الآداب الروائي اليمني – رغم ضالة حجمه وتواضعه الجم كمنعكس ، منطقي وطبيعي لانغلاق وتدني مستوى النمو الاقتصادي – الاجتماعي والثقافي – الروحي  والسياسي إلا أننا نتذكران هناك إسهامات مبدعة ظهرت مع السنوات الأولى لمراحل الأنعتاق والتحرر والانطلاق للأنسان اليمني في ستينيات القرن الماضي والذي مثلت فيها إعمال الأديب محمد أحمد عبد الولي الإرهاصات الأولى ومازالت حتى اليوم- من جهة نظري - بلا منافس في مستوى الأداء كماً ونوعاً .( مقارنة بمسيرة حياته الزمنية والإبداعية الأدبية .. ناهيك عن ظروف البيئة المحيطة آنذاك ) .

لكنني هنا لست في هذه المقدمة لاستعراض المراجعة النقدية الأدبية للرواية اليمنية وأنما وجدتها مدخلاً للمقارنة التاريخية مع ما أود أن أتناوله بقدر من الإيجاز كقراءة سيكولوجية لنص الرواية (( دملان )) الإبداعية المتميزة للبر فسور الجامعي المهندس والأديب الفرنسي الجنسية اليمني – العدني الولد والمنشأ الدكتور حبيب عبد الرب سروري .

 

عقدة أوديب:

 

في قراءة مسحية للرواية نجد المؤلف كجزء من أسلوب السيرة الذاتية يشدنا بعرضه لتجربته الشخصية المبكرة مع المرأة والتي تلعب فيها الأم منذ البداية وحتى النهاية ضابط الإيقاع وفقاً للتحليل النفيس في فهم ديناميكية السلوك الشعوري منه أو اللاشعوري ( الظاهر منه أو الخفي ) في العلاقة مع المرأة والجنس منذ الطفولة وحتى الرشد  .

فمن مطلع الرواية ( ص –8) يأتي تسأله : "( أليست هي ) - يقصد أمه – سبباً في ذلك إلى حد ما ؟ ألم تقف حجرة عثرة أمام أول عشق ذق بابي ؟ المفارقة التي تزعجني قليلاً هي أنها هي التي قررت أن أسمي : ((وجدان )) في حين كان والدي يريد أ، أسمي : محمود لعلها أرادت فقط أن يكون أسمي وجدان ، على نفس إيقاع أبي : قحطان ,... "

 ومن ص (61) نجده يجتر من شريط العمر و[بأكثر وضوحاً وتحديداً لمواقفه من الأم : " تجاوزت العشرين من العمر ولم أسمع فيه صوتاً أنثوياً يناجيني . لم يعرف مسمعي غير صوت أمي التي صارت تراقب حركاتي وسكاناتي أكثر من قبل . تلاحقني بنظرها خوفاً من شئ أجهله ."

 وحتى الصفحات ما قبل الأخيرة للرواية (من 399- 400) يعزز المؤلف التفسير . الفرويدي . حينما ينحسر منحى العقدة النفسية الأوديبية لتقادم السن وتغير الموقف السلوكي إلا أن روح السيطرة الأمومية تظل باقية وإن خفتت ردت الفعل تجاهها – نظير التعويضية التي حققها في مسيرة حياته .

 

 

-  إن ذلك التساؤل الذي جاء في مطلع الرواية و ما بعدها من تناولات مشار إليها واحدة من أهم محاور  الاهتمام في المنطلقات النظرية والتطبيقية لمدرسة التحليل النفسي الفرويدية و التي عرفت بعقدة   أوديب ، وأستميح القراء عذراً هنا للإشارة الملخصة و التعريفية بهذا المصطلح الشائع في حقول    العلوم السلوكية ( لعلم النفس والطب النفسي ) .

 

 

 

كما وردت في قاموس علم النفس والتحليل النفسي للدكتور فرج عبد القادر وزملاءه بأن: عقدة أوديب ( Oedipus Complex ) : هي  جملة الرغبات الليبيدية والعدوانية التي يشعر بها الطفل تجاه والديه ويبلغ ذروته في الحقبة بين ثلاث وخمس سنوات ، فمنذ أن يرفع الستار عن الوليد لتتفاضل (الأنا)  عن (الهو)  وفصول المسرحية مستمرة انتقالاً من المرحلة الفمية إلى الشرجية ليبلغ الموقف ذروته في مركب أوديب في المرحلة القضيبية حيث قمة الصراع كنتائج لذلك الموقف الذي يمر به الطفل والذي نتج بالضرورة لطول اعتماده في طفولته على والديه لذا فهو يتميز بثنائية الوجدان Ambivalence نحو الوالد من نفس الجنس وعلاقة الحب الشبقي الحنون معاً بالوالد من الجنس الأخر ذلك التعلق الذي يتناوله الكبت Repression بسبب الصراع الناشئ من اصطدام هذا التعلق بمشاعر الحب والكراهية والخوف الذي يشعر بها الطفل تجاه الوالد من نفس الجنس وهو ما أسماه فرويد بـ ((عقدة أوديب الإيجابية )) ولقد أطلق عليه هذا الاسم لأن مضمونه الجوهري موجود في تلك الأسطورة اليونانية التي حفظها سوفوكليس من الاندثار في تراجيديتة الموسومة (( أوديب ملكاً )) وفيها يقتل  أوديب أباه (( لايوس )) ملك طيبـة ويتزوج مـن أمه (( جيوكستا )) ويتبـوأ عـرش طيبـة

( دون أن يعلم حقيقة ما فعل ) وهنا تجدر الإشارة إلى ما يذكره فرويد عن ذلك التحريف في الصياغة الشعورية للأسطورة ونعني به جهل أوديب بفعلته والذي لم يكن غير تصوير مشروع لحالة اللاشعور التي تنتهي إليها هذه الخبرة المأساوية لدى الطفل وعقدة أوديب – بهذا المعنى – يعد مصدراً من أهم مصادر الإحساس بالذنب الذي يلف المرضى النفسيين في غالب أحوالهم بقدر ما هو المصدر الأساسي للأخلاق . ومن المعروف أنه تحت تأثير عقدة أوديب والموقف الأدويبى بعامة وفي علاقة وثيقة به ينشأ الخوف من الخصاء ( انظر عقدة الخصاء ادناه ) .

ولقد تحدث فرويد أيضاً عن عقدة أوديب السالبه عندما يحل التعلق العشقي محل تلك المشاعر العدوانية التي يستشعرها الطفل تجاه والده من نفس الجنس ، وإن دلته الخبرة التحليلية النفسية كما يقرر بنفسه في كتابه (( الأنا و الهو )) ( 1923) ،

على أن هذين الشكلين ليسا أكثر أشكال العقدة شيوعاً وإنما يمثلان تبسيطاً كاف فحسب من أجل الأغراض العلمية ، إذا أن الدراسة المتعمقة تكشف عادة عن عقدة أوديب الكاملة Complete Oedipus Complex والتي تتبدى في وجهين سالب وموجب وترجع إلى الثنائية الجنسية ((Bisexualityالموجودة أصلاً لدى الأطفال

 ( ولدى الإنسان عامة ) ومن هنا يمكن القول بأن الصبي لا يتخذ اتجاهاً ثنائياً نحو أبيه وعلاقة بموضوع ذات طابع وجداني تجاه أمه وإنما يسلك في الآن نفسه سلوك فتاه مبدياً اتجاهاً أنثوياً ودوداً ناحية أبيه واتجاه الغيرة والعداء ناحية أمه ويرى فرويد أنه من الأفضل بوجه عام أن نفترض وجود عقدة أوديب الكاملة لدى الفرد بخاصة لدى العصابيين .

  

عقدة الخصاء     Castration Complex

               تحت تأثير الموقف الأوديبي  وفي علاقة وثيقة به ينشأ الخوف من الخصاء ، ذلك الخوف اللاشعوري من فقدان عضو التناسل عقاباً على ما يستشعره الطفل الذكر من دوافع ليبيدية  تجاه موضوع محرم . وتحت تأثير مركب الخصاء وحصر الخصاء Castration Anxiety يعاني الطفل أقسى صدمة في حياته الباكرة وبخاصة عبر تهديدات الأم التي تحاول أن تمنعه بطرق شتى من العبث بعضوه التناسلي وقد تعلن الأم أنها ستكمل تنفيذ تهديدها للأب ، إلا أن هذه التهديدات – كما يرى فرويد – لا تؤتي ثمارها إلا إذا تحقق شرط آخر قبلها أو بعدها نتيجة رؤية الطفل للأعضاء التناسلية الأنثوية أو اختلاسه النظر إليها مما يدرك معه نقصان ذلك الجزء القيم لديه فيصدق التهديدات التي سمعها ويقع تحت تأثير مركب الخصاء الأمر الذي يؤدي في النهاية لا ستدماجه للتحريم الذي يقع على المحارم من خلال توحده بالأب ومن ثم يتجه إلى حل الصراع الأوديبي .

ولا شك أن آثار مركب الخصاء ( والذي انبعـث مـن تهـديدات واقـعية فـي علاقتهـا

 بالمتخيل ) لا تحصى فقد تؤثر في علاقة الصبي بوالديه ومن ثم بالرجال والنساء بعامة إذا تتعرض الخبرة بكلها لكبت Repression قوي يظل على أهبة الاستعداد لتعطيل النمو اللاحق للأنا بعد البلوغ .

 

·    مدرسة التحليل النفسي تهتم كثيراً بدراسة مراحل الطفولة وتعتبر إن حدوث العديد من الاضطرابات السلوكية في الشخصية لاحقاً ما هي ألا شكل تعبيري من أشكال المعاناة النفسية في مرحلة الطفولة ( كسوء المعاملة الجسدية ، النفسية ، الجنسية أو الإهمال ) .

وفي هذه المرحلة تكون الأم صاحبة السيطرة ،السيادة الأقوى في المجتمعات المدنية ، وبعض التجمعات السكانية أو بعض أنماط الأسرة ذات النمطية الأمومية

 

إن هذا التفسير الديناميكي لسير السلوك من وجه النظر لفرويدية – كواحدة من أشهر مدارس العلوم السلوكية لدراسة الشخصية – تساعدنا كثيراً في فهم التصرفات السلوكية لبطل الرواية التي ربما – من وجهة نظري لعبت سعة ثقافية واهتمامات المؤلف بالعلوم الإنسانية ومنها المدرسة الفرويدية – الذائعة الصيت في فرنسا – لأن تلقي بظلالها على منهجية العرض السلوكي لشخوص الرواية.       

 

 

تناولي هنا من منطلق التحليل النفسي لا يعني تمسكي المنهجي بها وانما جزء من القراءة الشائعة للنص الادبي من منطلق تلك المنهجية رغم ان  هناك مدرسة أخرى في علم النفس وهي المدرسة السلوكية (اتحمس لها كثيرا).

-         تعتبر الآن من أكبر مدارس علم النفس نفوذاً وشيوعاً – تقدم تفسيراتها للسلوك الإنساني من منطلقات فيزيولوجية باعتباره استجابة تعلم للمثيرات البيئية- يديرها الذماغ البشري- وقد كان كلاسيكيوا هذه المدرسة ( العالم الروسي إيفان بافلوف والأمريكي جون وأطسن ) المكتشفون الأوائل لمفهوم التعلم

وطوره لاحقا إتباع هذه المدرسة ( ثوارنديك، سكنر، إيزنك ،ولبى) وقرنوه بالعديد من المظاهر السلوكية السوية منها والمضطربة بمختلف أنواعها عن الإنسان وأكدو بأن الاضطراب السلوك سواء كان ( معرفي ، انفعالي أو أدائي – حركي ) فأن مرجعه إلى خبرات تعلم مكتسبة بشكل خاطئ من البيئة المحيطة وبشكل مستمر منذ الطفولة وحتى مراحل متقدمة من العمر .

وهذا يعني فيما يعنيه من مقاربه قراءتنا السيكولوجية للنص الأدبي إن مظاهر الخواف من الجنس الأخرهي حساسية انفعالية وردود فعل  و هي مسلكيات مكتسبة ( متعلم- شرطياً ، إدائياً ،معرفياً ) من البيئة .وذلك حيثماً يكون للأم ، الأب ( الأسرة ) هم الصف والمدرسة والمنهج الأول والاشد تاثيراً في البيئة .. مقابل  محدودية وفقر المصادر والمثيرات التعليمية الذكية والمحفزة في الواقع المعاش .

2-    وعليه فيمكن القول ان مدرسة التحليل النفسي تفسر السلوك بتحيز وفقا للمعتقد الوراثي- الطبي وتصبغة بمصطلحات من الأسطورة الأغريقية القديمة – وهو ما يؤكد سعة الأطلاع  في التاريخ والأدب والأنتربولوجيا والعلوم لرواد مدرسة التحليل النفسي من جانب ومن جانب أخر تعبر عن اللبس المنطقي لتطور العلم مطلع القرن العشرين ومحاولة وإن بلباقة التحول من الميتافيزيقيا إلى المادية – الموضوعية في البحث العلمي والتي تميزت بها بوضوح أكثر المدرسة السلوكية . وأنني لأرى  انطلاقا من الأسس النظرية لكلتى المدرستين أنهما مرجعية متعددة بتفسيرات متكاملة المنهجية للسلوك الإنساني .                                                     

.

 

العشق ( التعلق الوجداني )  :

 

يدرك القارئ مدى حساسية ، رهافة ، وجدانية ،وعاطفية شخصية المؤلف التي تمثلها ليس أبطال الرواية فحسب ( من منظور وصفهم الشخصي ولكن حتى من طبيعة تفاعلهم مع عنصر الزمان والمكان في حنين واضح ومكثف ، ربما هو – من وجهة نظري – أحد الأسباب الانفعالية المفرطة المؤثرة في توجهات المؤلف بنظرته السوداوية عن حياة شعب وأرض دملان .

( وهو وثيق الصلة في تفسير العديد من وجهات النظر لاحقاً لما طرحناه في معاناته للعقدة الأوديبية ) .

على أنني هنا سأحاول وأيضاً بقدر من الإيجاز – لتجنب القارئ الضيق من الإطالة في السرد والتفصيل – العبور على أهم المحطات التي أستوقفني بلفت النظر لا أقصد من ربطها بقضايا العشق والتعلق الوجداني – ( وهي التعبير الأدق والمفضل من وجهة نظري عنه لمفهوم الحب - الأكثر عمومياً وغموض من حيث المعنى سواء التشريحي ، الوظائفي، البيولوجي وحتى الاجتماعي والديني  .

 

 

أ‌-      عشق المراهقة :

   

في الفصل الخامس من الجزء الأول ( شارع دغبوس ) ( ص 61-119) يروى لنا حبيب سروري البداية لقصة عشقه المراهق مع سوسن وصدمة ، نكبة تعلقه الوجداني الأول، تلك الصدمة ، الشرخ في حياته العاطفية – كانت وفي عملية لا وعيه خافية لتراكم خبراته الوجدانية ، العاطفية المخفقة لاحقاً  حيثما كانت أمه هي الصاعقة والزلزال المدمر لارهاصه العاطفي ، المراهق .

لقد وفق حبيب كثير في سرد وتصوير تلك التجربة(لعقدة اوديب) وبشكل جذاب وبسيط  مما يمنحها استحقاق الأصالة الإبداعية التصويرية للخبرات الحياتية الواقعية والمتكررة حتى اليوم.

 

 

 

ب‌-  عشق الشباب :

 

في الجزء الثاني من الرواية ( سانت مالو ) تقدم لنا الرواية نماذج العشق والتعلق الوجداني لمرحلة الشباب وتحديداً عند جيل من الشباب الذي حظي بفرصة الدراسة خارج الوطن وفي الأصقاع الأوربية .

وجاء هذا الجزء من الرواية بوصف شيق لمذكرات يومية لشاب يمني منحة الاقدار فرصة الدراسة في أوربا ولقد كان دقيقاً في تركيزه على الحيثيات العاطفية للواقع اليومية  لبطل الرواية وتلهفه – من شدة الحرمان – للبحث عن شريك من الجنس الأخر .

كان الكثير من سرد تلك الوقائع – لطيفاً ، مضحكاً – يعكس بساطة حرمان ،سذاجة ،رقة ووداعة ، انفعالية وحماقة الشاب اليمني خارج المدارات الجغرافية لموطنه وأهله .

فمن قبله رأس السنة ، والحب أو العشق عن بعد ( والتي جاءت في الفصول من 1-5) وحتى المحاولات والتجارب الفاشلة لنشاطات الطالب اللاصفية في الحياة العاطفية والتي قدمها في أربع تجارب مضحكة تعكس شدة الصراع بين تعقيد التفكير ومرارة نمطية الحياة الشرقية وبساطة الحياة وألفتها ،إبداعها وتنوعها واختلافها في الحياة الغربية من حيث موقفها مع المرأة.

والأكثر من ذلك من وجهة النظر السلوكية أنه في ذلك الاستعراض للمحاولات الأربع ( ص 176-178) إنما يقدم عرض لخبرات ومهارات تعلم سلوكية في المسألة إقامة علاقة مع الجنس الأخر ( وأن كانت خبرات فاشلة ) .ووفقاً للمسار النمائي للشخصية ( وهو فيما يتطابق مع درجة تقدمه في سنوات الدراسة ونضج الشخصية أيضاً لبطل الرواية ) نجده يعبر عن شكل النضج والرقي للتعلق الوجداني حدا الهوس بزميله دراسته إيزابيل (من خلال استخدم الية التساميsublimation-)وقدم مقاربة جميلة لتأثير-محاكاة - البيئة الثقافية الفرنسية المتحررة والثورية في طبيعتها على روح شخصية البطل التي كانت هي الأخر ذات جهوزية ،استعداد من بيئتها المحلية آنذاك في عدن .

ولعل أكثر ما أثار حنيني الشخصي لقراءة الفصل الثامن ذكريات العلاقة  لزملاء الدراسة التي كانت عبارة عن وعاء عبر حضاري – ثقافي ، أثني ، قاري لمختلف الأجناس الأديان والعادات . وأعتقد أن حبيب كان مبدعاً في استذكار شخصية وسلوك ذالك الشاب الأفريقي -- - نموذج القارة السمراء في واقعة درة ميزان التي أعتقد أنها تخلق حالة تداعي ذكريات مماثلة لطيفة مع العديد ممن درسوا في الخارج وحيثما كان لهم زملاء من القارة السمراء .

 

 

 

 

 

 

 

العلاقات الجنسية:

 

الرواية بطبيعتها ذكورية – منطقياً بحسب مؤلفها –إلا أن حروف ، كلمات ، عبارات ، جمل ، صور، الحياة الجنسية فيها لا تنبض بالخشونة ، العدوانية ، الاندفاعية ، التقليدية  ، وهذا مؤشر ذو أهمية كبيرة في فهم طبيعة شخصية المؤلف التي ربما يكون للمؤثرات البيولوجية 0 الوراثية والفسيولوجيةمنها مجتمعة) دوراً اكبر في تحديد تلك الصفات عنها من التنشئته الاجتماعية .

ويعزز رأينا ذلك – على بعض الوقائع الدالة تحديداً منذ عشقه المراهق مع سوسن ومدخله الأدبي المهذب في العلاقة معها مرورا بايزابيل.. الخ،و  بالمقارنة مع غرائزية واندفاعية زميلة جعفر الدملاني.

 ويقدم لنا حبيب في رواية صوراً عديدة لمختلف صنوف المطارحات الجنسية والتي جاءت في إطار عرض سريع لسبع نماذج عن حالات الاتصال الجنسي السريع والتي لم تسمح لتأسيس واستقرار علاقة إنسانية – نموذجية – مسكون بها بطل الرواية ( كحالة دفاع نفسي تسمى المثالية - Idealization   ) ( ص 219-229) أراد المؤلف من خلالها تأكيد الفرق البيولوجي – الاجتماعي في الموقف من  مسألة المرأة والجنس وذلك بالمقارنة مع وصف لطبيعة العلاقات الشهوانية – الاستهلاكية التي يهيم زميله جعفربها( مع عشيقته الروسية 207-217) .

ففي حين يرفض وجدان الكذب ، الإباحية ، الدعارة ، العدوانية أو تعذيب الذات ، الخداع الانغلاق والمحافظة في شخصية من يسعى إليها  من الجنس الأخر ، نجد النموذج العكسي كما قاله في زميله جعفر الدملاني ..   الذي يعيد تمثيل كل ذلك السلوك المشين في شخصه لتاسيس علاقة مع الجنس الأخر .

 

العنف ضد المرأة :

 

                       حظت هذه المسألة ببعض الصور  في الرواية ولأنني هنا بصدد المسألة الجنسية فيمكن التركيز باختصار على بعض تلك الوقائع منها – وأستميح القارئ إن فاتني البعض الأخر .

صورة (1) : في الفصل (14-15) من ( سانتومالو ) تحليل موفق للمؤلف في تفسير ديناميكية العنف الأسري الناتج عن الغيرة من زوج سوسن لتفوقها بمهاراتها المتعددة في التعليم ، الرسم ( 265-276) .

صورة (2) : وصف لتقيد حرية المرأة في ملبسها ( بالسواد والبرقع ص 305-309)

 

صورة (3) : في الجزء الثالث من الرواية ( علبة الصردين – الفصل الثالث : عنانيص ( ص:331-334) سرد توثيقي ( أثنوجرافي) للعلاقة الإنسانية بين الذكر ولأنثى في صنعاء والتي يمكن أسميها هنا نماذج العشق الثلاث بصنعاء ( وأن اتسمت معظمها  ، بطابع محزن ) وهي :

 

1-  أن عشقت هددوك بالقتل فكان الجنان هو المخارج أسماهم (عشاق جبل نقم ) ( وهو جهد أدبي تفسيري جزئي لانتشار ظاهرة المجانين الذين نراهم في حياتنا وأشار لهم في الرواية أيضاً).

2-  عشقوا فتزوجوا وهربوا إلى جبل صبر ( لكنهم طوردوا وقتلوا ) ( ما يعرف بجرائم الشرف ) ( أسماهم مقبرة الصينيين ؟ ) .

3-    عشقوا وتزوجوا وذهبوا إلى أب ( باب شعوب ) .

 

صورة (4) : اعتبار أسم الزوجة عورة لا يجوز فضحها أبداً (ص382) .

 

صورة (5) :  العنف السياسي ضد المرأة حيث حاول المؤلف أن يسجل تاريخ مرحلة معتمة تميزت بالغبن والقهر الإذلال والقسوة في التصفية السياسية للخصوم أو للمعارضين أي كانوا ضد مصالح شلة في هرم  السلطة وكما في كل أصقاع الأرض حيثما تنتشر الحروب ، العنف والديكتاتوريات ، تكون المرأة هي أولى الضحايا. ففي الرواية تكون قصة اغتصاب سوسن بحسب قانون صيانة الوطن نموذج لصورة العنف والاضطهاد الابتزاز ضد االمراة  في عدن آنذاك ( ص: 415،405،405،404،402،396 ) . 

صورة (6) : الفئات المهمشة كان لها هي الآخرة حيز في هذه الرواية كيف لا وفئة الأخدام معروفة ، مشهورة ، وموصوفة في اليمن .. في الرواية رسالة تنبيه لظاهرة معاناة صبيات الأخدام من الاغتصاب (ص-403) .

صورة (7) : الدعارة أقدم مهنة في التاريخ، على حد وصف مفكروفيلسوف ألماني من القرن التاسع عشر – وهي واحدة من أكثر صور الذل والقهر للمرأة التي تدفعها  إليها ظروف الفقر ، الحرمان ، التفكك والعنف الأسري ، والرواية أيضاً ترسل تحذير لانتشار هذه الظاهرة في المجتمع مؤخرا (ص417) .

 

ختاماً أرجو أن لا يكون المسح  الاستعراضي السريع والموجز لتناول بعض الموضوعات في الرواية قد أنتقص ، أو شوه صورة النص الإبداعية للرواية .بل أمل أن أكون قد أسهمت في تقديم تحليل أولي من منظور سيكولوجي لنص أدبي يمني متميز يستحق  التقدير  والقراءة لأكثر من مرة.

 

 

 

 

 

 

 

د . معن عبدا لباري قاسم

·  أستاذ/ علم النفس المشارك /كلية الطب والعلوم الصحية /جامعة عدن