عن  تسريب  التاريخ

في رواية "الملكة المغدورة "

 لحبيب عبدالرب سروري

نادية الكوكباني

 

 عن الرواية:              

((الرواية هي بحث عن قيم أصلية في عالم لا أصيل، فهي بالضرورة وفي آن واحد سيرة وتاريخ اجتماعي )) لوسيان جولدمان                                                                                 

    صدرت رواية "الملكة المغدورة "للروائي اليمني البروفيسور حبيب عبد الرب سروري باللغة الفرنسية عن دار الارماتان, وترجمها للعربية الدكتور على محمد زيد لتصدر عن دار المهاجر في طبعتها العربية الأولى ثم طبعتها الثانية عن مؤسسة العفيف الثقافية, ومؤخرا صدرت طبعتها الثالثة من ضمن اصدارت وزارة الثقافة والسياحة –صنعاء -                                                     

              

عن المثقف:

((المثقف نوع من الذاكرة المضادة...تحبط محاولات تغييب الماضي)) ادوارد سعيد

 

عن تسريب التاريخ

 

      ربما فتحت اقتباسات الروائي حبيب سروري داخل روايته "الملكة المغدورة"، التي ثبتها كمقدمات لفصوله، شهيتي لان أبادله ذات الأسلوب في قراءتي عن التاريخ المتضمن في متنها .فإذا كان قد أحبط محاولات تغييب الماضي لتلك الفترة الزمنية الهامة في التاريخ اليمني بشماله وجنوبه والتي تكاد تكون أدبياتها نادرة إذا ما بحثنا عنها، انطلاقا من مدلول مقولة ادوارد سعيد فانه أضاف كلمة جديدة إلى مقولة جولدمان وهي كلمة "وسياسي" التي سألحقها مباشرة بعد كلمة "اجتماعي".

      لقد استطاع حبيب سروري وبذكاء شديد أن يتحدث عن تاريخ فترة السبعينات الاجتماعي واشتغل على عاداته وتقاليده ووظفها ببراعة في عملية السرد ,لكن الأكثر إدهاشا هو تناوله للتاريخ السياسي في تلك الفترة مستخدما عبارات تخترقها في الصميم أحيانا ورموزا تفيض بملامح تلك الفترة أحيانا أخرى ...دون أن ينكر إنها في ذات الوقت تحمل بين طياتها كثيرا من  سيرة ذاتية للفترة التي سبقت رحيله إلى فرنسا.

      هذا المزج الثلاثي المتقن بين السيرة الذاتية والتاريخية بشقيها الاجتماعي والسياسي، ابتداء من عنوان الرواية الذي يحمل أكثر من دلاله، ومرورا بأجزائها العشرة وفصولها الخمسة والعشرين وانتهاء باحكامة إغلاق الدائرة عليها ووصوله من حيث بدأ ..هو ما أعطى لها وقع خاص على القارئ سواء عاش في تلك الفترة أو سمع عنها .

      فناجي الراوي الرئيس في الرواية أو الشخصية المحورية لم يتوان عن تعرية معشوقته الأولى "عدن "ليظهر جراحها النازفة و المغطاة بوابل من الشعارات الصدئة خاصة بعد استقلال جنوب اليمن  وبدء السبعينات التي تنطلق منها أولى صفحات الرواية: "كان يوم السبت من أيام شهر أكتوبر ,شهر الثورات كما علمونا –مطلع السبعينات - ص8" وما صاحب تلك الفترة من شعارات لم تعد راسخة إلا في ذاكرة القليلين، موضحا وجهة نظر المتحكمين في مصير المدينة وساكبيها بجمل ماركسية ربما كانوا لا يفهمونها. فهاهم رجال مسلحين بمقصات ومسدسات يتجولون في مركز الشيخ عثمان (أثناء ما كانت تسمى ب"الأيام السبعة المجيدة" في الخطاب السياسي آنذاك) باحثين عن الشباب الذين لم يلتزموا بثياب الثورة ليقصوا أطراف بنطلونات "الشارلستون "والشعر"الهبي" موضة أخر الستينات .

      فهم أصحاب القرار، ومهمتهم الحفاظ على الأخلاق العامة ((وبهذا يحفظون لمدينتنا روحها المستطيبة بعمق. ص9)).حتى لو تزعزعت المدينة أمام المتظاهرين المهتاجين الذين تم تحريضهم لقذف الأوراق والملفات الاداريه للخارج باعتبارها رمزا للبيروقراطية وللترف الفكري. كما قال عدنان الشخصية المكملة لناجي والأكثر منطقيه وعقلانيه وجسورة. ووصفهم ب "الماركسيين الأميين "ساخرا من "العبث الوحشي" للمدينة التي لا يقل حبة وعشقه لها عن ناجي.

      الوصف الدقيق للشيخ عثمان، المنطقة التي نشأ فيها ناجي بأقسامها الاربعه الهندسية الجامدة، ومعرفته التامة بتاريخ نشوء الأجزاء المحيطة بها مثل الاكواد, إضافة إلى توغله في  حواريها ونسجه لعلاقات مع أهلها،  مكَّنه من التزاوج السردي بين ما هو تاريخي اجتماعي وتاريخي سياسي .((...إن سوق الممنوعات كان مكتظا ب "لا"سماوية في مكتبة أبي.....و"لا"حديثة العهد, أرضية, تزأر بحماسة في قوانين السبعينات اليمنية ..ص33)) ومتعمدا توغل حبيب سروري في وصف كثيرا من المواقف الدالة على الأمية، وعلى تفشي الجهل, أمام اهتمامات الدولة بمظاهر اقل ما توصف به بأنها ساذجة .مقارنة باحتياجات الناس ,ودلل ب: ...ضعف نظرة ..طرق معالجة عجائز الحي ... أمية امة وإصراره على تعليمها رغم الأربعاء المضني ...الخ وأورد على لسان عدنان ((..وتنبأ بأيام عجاف تمر بها اليمن يسببها شبه أميين أيا كان ماضيهم المجيد. ص 25))

 

عن "حشوان "المسكوت عنه

 

      لتظهر بعد ذلك فجأة شخصية "حشوان" في الفصل الثاني وهو نهاية  الجزء الثالث من الرواية وكأنما لم يرق لحبيب سروري زحف تسريب التاريخ بعبارات يمكن فهمها من عدمه، وأراد تجسيد ذلك بشخصية مستفزة بكل المقاييس وقادرة على تجسيد الوضع السائد في تلك الفترة .. وهي شخصية حشوان .واستطاع أن يقول على لسانه  شعارات  ماركسية مختلفة ومتعددة .وركز على أن تكون أفعاله هي الصورة الأكثر قربا والأكثر تعبيرية التي تساعد القارئ على فهم هذه المرحلة ((وبعد قليل ستحل محلها لافتة ضخمة وغريبة بعض الشيء كتب عليها بأحرف حمراء "شعبنا لا يخاف الصواريخ الأمريكية والبريطانية .بل يخاف التسيب الأيديولوجي ". وسيكون كاتب هذا العمل الكبير راعيا قديما يدعى حشوان :أللعنة المرعبة في حياتي وفي حياة كثيرين وبخاصة عدنان ص 74)) وفعلا كانت الشخصية نموذجا للرغبة الملتهبة في الحصول على السلطة والسيطرة على الآخرين. الشخصية التي هي على استعداد تام لفعل أي شيء في سبيل ذلك حتى لو كان القتل .وبظهور شخصية حشوان أصبح لطرح الوضع الاجتماعي والسياسي مجالا أوسع من ذي قبل وسنجد ذلك في عبارات حادة كثيرة على لسان ناجي  مثل ((إننا في بلد يتقدم بإصرار وثبات نحو الخراب .ص 97))و((الغسالة الوحيدة الممكن شراؤها بعد تسجيل على قائمة رسمية وبعد انتظار سنوات ,وفي بلد يتصبب فيها المرء بالعرق وهو ثابت في مكانه بلا حراك ص 105))((...شكر السياسة الاقتصادية للحكومة بالقدر الذي تستحقه.....أسرعوا جميعا إلى المجمع الاستهلاكي المركزي ...أسرعوا مثل مركبات ضوئية نحو أكياس الموز الثلاثة. ص 111)) ((لم تمر بعد حتى ساعة على خروج المجلة, وتسعون في المائة من المواطنين أميون )), أو حتى عبارات حشوان نفسه ((يجب زرع الخوف على كل حبة رمل, الخوف من السماء ومن الذئاب ومن العدو, ومن المتآمرين ...ص 138))((كيف يمكن العيش دون هضم لينين قط؟ص143)) بلغ إلمام حبيب سروري بجوانب شخصية  حشوان من التقنية التي جعلته يتتبع مراحل تطوره السياسي..من خلال الدورات الايديولوجيه .واكتشافه ل"قوانين الحياة "وامتزاج لهجته بنبرات الشطح الثقافي ...ل"بناء حياة ديالكتيكية" إلى تخليه عن هذه النهايات "الطفولية" ((وفيما بعد أصبح "النضج السياسي "الكلمة السائدة في الحياة اليمنية .ص 146)) دون أن يتخلى عن التلميح عن جهله وعن أميته الثقافية رغم ما يفعله لينفيها, بل وعن خطه الغير مقروء بأخطائه الاملائيه عند كتابة تقاريره عن سير حياة سكان المدينة ((...فليست سوى اندفاعات مضطربة, محمومة, مكهربة, وخطوط قبيحة, مريضة تجرح الأوراق ,إنها كتابة لا تبعث على الرغبة في مشاهدتها .ص147))                                                                                     

      الفصل الثالث من الجزء السادس استحوذ على مقارنه خفية بين شخصيتي عدنان العبقري المثقف المتسامي, وشخصية حشوان السالفة الذكر, ((ومع ذلك لم يحالف حشوان ما يكفي من الحظ لان الجيش الماوي كان في تلك الفترة يتراجع عن رقعة الشطرنج اليمنية. ص153))وتبلغ الشخصية ذروتها وتحكمها في المدينة بركوب حشوان الدراجة وتمكينه من السلاح, وهو الأمر الذي جعل من ناجي يطلق على الشيخ عثمان" حشوان جراد "بعد أن بسط عليها نفوذه واستطاع التأثير حتى على أصدقائه المقربين ((أن نفعل ولو في وقت متأخر خير من أن لا نفعل أبدا !وألان إلى الإمام, يا رفيق ناجي. ص 173))وهو بذلك يترك للقارئ استنتاج قوة الفتن والمؤامرات التي اجتاحت المدينة في تلك الفترة .. والتي كانت قادرة على أن تجعلك تستيقظ صباحا دون أصدقاء وربما دون أهل. انقلبت موازين المدينة وانتشر الجنود في كل مكان وطغت موجة اعتقالات "وطاويط الظلام "بشكل واسع لتفقد المدينة بريقها وروعة أجمل ما فيها: "اكواد باريس" التي سيفاجأ ناجي بأحد أفراد" الميليشيا الشعبية "وقد احتلها بهدف حمايتها ومنع الاجتماعات السياسية والسرية.                              

      هذه الأحداث ستحرم ناجي من حبيبته ابتهال بسبب سفرها المفاجئ واتهام والدها بالجاسوسية إلى الشمال ومن ثم موتها في ظروف غامضة ..لم يصرح بأنها انتحار وان دلت الأحداث على ذلك ..ولا يجد ناجي سوى كلمات يعبر بها عن حزنه. ((نموت في "العربية السعيدة "بغزارة, وابتذال, ونموت بشكل واسع, ونموت ببساطة, ص 187)) ينهي حبيب سروري أحداث هذه المرحلة بسوداوية شديدة متأسيا على الحالة التي وصلت إليها ليس منطقة الشيخ عثمان فقط بل وعدن بأسرها..ويتعرض أيضا وبشكل صريح وسريع لأحداث يوم 13 يناير الدامي عام 1986, كنتيجة حتمية لترسبات ماضي بغيض اختلت موازينه. ((ربما لا شيء غير عادي, إذا نسينا أن تناسخ المؤامرات, والكذبات الكبيرة والضربات المقيتة في الحياة السياسية اليمنية كما فعلت دائما, وستتجه دورات العنف الخسيس حتما نحو الهاوية. ص 205).  

class=Section2>

عن "الملكة المغدورة "

      بفنية عالية,وتوازن وحميمية شديدة, تواشج في الرواية الخاص (حياة ناجي )والغوص في شخصيته ومحيطه ورسم معاناته وتطلعاته على إيقاع نبض حياة مدينته. والعام (يوميات عدن )التي استطاع حبيب سروري روايتها بعد أكثر من عشرين عاما بدقة هائلة وبهوس للحفاظ على تفاصيل تلك الفترة وأحداثها المختلفة ,بذاكرة مضادة أحبطت تغيير الماضي، وأثمرت رواية تمكنت من توثيق مرحلة تاريخية هامة من المراحل المختلفة للتاريخ اليمني.