لقد بهرني حقاً
الكاتب اليمني: حبيب عبدالرب السروري بأسلوبه الروائي في ثلاثيته (دملان)
التي قرأت منها اثنتين هما (سانت مالو) و(دملان) حتى الآن وجدتهما في مجموعة
كتب مهداة من مؤسسة العفيف الثقافية اليمنية. سأعترف بأنني أدين لهاتين
الروايتين من ثلاثية السروري, بفتح شهيتي مجدداً للقراءة.. قراءة القصص وما
يتعلق بها بوجه خاص وغيرها بوجه عام بعد عزوف طويل بسبب هذه الصدمات الفكرية
-والثقافية عموماً التي تهز أعماق اعماق مثقفي العرب والمسلمين جميعهم. قدرة
مذهلة على الوصف ومزج غريب مبك ومضحك في آن واحد بين مخزون الذاكرة وغرائبية
الخيال عبر أسلوب ساخر لاذع.. لاسع أليم.. لذيذ محرض على الرثاء والشفقة
واليأس والعطف على الواقع العربي من خلال نموذجه اليمني الرازح تحت نير تركته
وأرصدته التاريخية, ومثبطاته الراهنة. حبيب السروري تجاوز معظم الاصطلاحات
الروائية, واخترق كل المواضعات التي نعرفها ونتعثر بها للفن الروائي.. خلطة
عجيبة من التاريخ والسيرة الذاتية, والمذكرات, من النثر والشعر والسجع,
وتجليات فنية يفتقر اليها معظم كتاب الرواية العرب في اقل تقدير انه يسخر
الواقع من اجل الاسطورة, والاسطورة لصالح الواقع من يسمى الناس والاشياء
باسمائهم احيانا ويقنعها برموز وألقاب وكنى شفافة صارخة احياناً اخرى, هو
الراوي والشخصية ومحور الاحداث في معظم الاحيان, سأتراجع وأقول ان كل الاسماء
عنده والامكنة والافكار أمور محورية حية متنوعة شاسعة.. واسعة سعة الفضاءات
الزمانية والمكانية في جغرافية الرواية في عالم السروري الفريد قراءة تاريخ
وحاضر الانسان العربي.. في نموذجه اليمني ايضاً.. لقد قرأت عن (عدن) كثيراً
في كتب التاريخ المحايدة وغير المحايدة بما فيها بعض كتب (الرفاق) ومنهم
عبدالفتاح اسماعيل عفى الله عنه فقد كان الواقع في واد وهو في واد آخر من
الطوباوية والايمان المطلق بـ(الاشتراكية العلمية) التي وصفها حبيب السروري
في (دملان) بانها -على علاتها- (من الوزن الثقيل), وان كانت الاشتراكية
العلمية بريئة جداً من مساوئ ذلك النظام القبلي الذي تآكلت قياداته (الامية)
في مجازر وتصفيات لا أول لها, ولا آخر).
قرأت (عدن) فحاكيت القدماء
والمعاصرين.. غير اني قرأتها بدرجة اكثر عمقاً في (سانت مالو) و(دملان).. خور
مكسر والشيخ عثمان, والسيلة وزرائبها و(زرائب منتديات القات) ومسجد (دعبوسي)
وشاطئ (جولد مور), ومتاكسي مدمني القات تحت ظلال صخورها.. الصورة الواقعية
لنسختها الرمزية بالحالمين الضائعين بين صخور (دملان) على مرتفعات
الهملايا.
الكاتب حبيب السروري احتفى بالمرأة في روايته كثيراً. بل رفعها
عن مستوى الذكور, اشاد بدور المرأة في اليمن فهي التي تعمل كل شيء في الوقت
الذي لا يفعل فيه الرجل سوى الاسترخاء في بؤرة البؤس الحالم, يمضغ القات
وينجب الاطفال عن طريق المرأة, لكنه في سياق احتفائه بالمرأة هبط بها في
مشاهد عديدة, وهذا الاستغراق الحسي, هو الصدمة القوية التي هزت كيان الكاتب
(بوصفه بطلاً لثلاثية) من جراء تنقله بين بيئات ثلاث تختلف فيما بينها نمطاً
واسلوباً اختلافاً يكاد يكون جوهرياً. البيئة الافريقية في نموذجها
التانزاني.. البيئة اليمنية في نموذجها العدني. ثم البيئة الاوروبية في
نموذجها الفرنسي. فالكاتب ولد في تنزانيا.. وغادرها طفلاً في الثامنة, الى
عدن حيث قضى بقية طفولته, وسنوات من شبابه, نشأ في البداية نشأة محافظة ثم
انخرط في غمار الانشطة النضالية للحزب الماركسي الحاكم ايام بروز عبدالفتاح
اسماعيل المنظر الفكري للحزب الحالم بجنة الاشتراكية (خاتم عبدالفتاح) كقولنا
(خاتم سليمان), ثم رحل الى فرنسا في بعثة دراسية وصفها وصفاً دقيقاً في (سانت
مالو) واصبح برفيسوراً في الفيزياء وعلوم الكمبيوتر يدرسها في المعهد القومي
وفي جامعة (روان) بفرنسا. مثقف واسع الثقافة يكتب بلغته العربية وباللغتين
الفرنسية والانجليزية.. له ديوان شعر (شيء يشبه الحب) ومجموعة قصصية, وبحوث
ودراسات. يعد واحداً -في نظري- مهما اختلفت معه في بعض أفكاره وأحكامه
وافراطه في التعريه, من ادباء العالم العربي, وكانت مؤسسة العفيف, قد اتاحت
لنا فرصة لمعرفة جوانب عنه, اتمنى ان تتواصل العلاقات بين المؤسسات الثقافية
العربية. بعد ان ضربت بينها الاسوار والابواب التي ظاهرها الرحمة.. والله
المستعان.
جازان ص.ب 246