ﺑﺤﺚ ﻣﺗﻘﺪﻢ
:التجديد الأخير 18:13 GMT - 2005/05/31
ﺑﺤﺚ ﻣﺗﻘﺪﻢ

حال الطقس في
مئة مدينة و مدينة


إختر العملات لمعرفة أسعار صرفها:












مقاتل من الصحراء
موسوعه
"مقاتل من الصحراء"


قراءة في ثلاثية اليمني حبيب سروري: رواية شاملة تزاوج بين المتخيل والافتراضي

محمد برادة     الحياة     2005/05/29

يطالعنا من وراء «دملان» بأجزائها الثلاثة (مؤسسة العفيف - صنعاء، 465 صفحة)، للكاتب اليمني حبيب عبد الرب سروري، نزوع الى كتابة رواية شاملة، كلية، تُزاوج بين الرحلة والتعلم، بين أسطرة الواقع وانتقاده، بين نص التخييل الحلمي ونص الحاسوب الافتراضي المتوسل بالكلمات وبالموسيقى الالكترونية.

هي رواية «كلية» لأنها، الى جانب تجريب طرائق متباينة في تشكيل النص، تطمح الى تصفية حساب – بالمعنى الفكري – مع مجموعة أسئلة جوهرية تواجه شاباً يمنياً يقف موزعاً عند مفترق طرق بين سطوة الماضوية ونداءات العصر الحديث، وكأنه يعيش، بالمعكوس، تجربة أهل الكهف الذين ناموا دهراً وصحوا على زمن آخر، فيما عاش وجدان زمن الحداثة أثناء دراسته في فرنسا ثم عاد الى بلاده ليجد نفسه محاصراً بعقلية أهل الكهف.

لكن التركيب الفني المزيج، يفتح الرواية على مسالك وتيمات متكاثرة، تتضافر لتمثيل الرؤية التي لا يطاولها المنطق الواقعي وحده. من ثم، نجد ان الثلاثية المقسمة الى ثلاثة أجزاء: «شارع دغبوس» و»سانت مالو» و»علبة الصاردين» (السردين)، ينتظمها على رغم اختلاف فضاءاتها وفتراتها الزمنية، حلم أساس تبدأ به الرواية في جزئها الأول ثم تعود لاستكماله في نهاية الجزء الثالث، فيأخذ ضمن البناء العام، طابع النموذج المضاد لما تعيشه الشخصية المركزية «وجدان» من خيبات عاطفية ويتحول الى مجال للتنفيس عن مرارته تجاه الأوضاع السياسية والاجتماعية الموغلة في التزييف والجمود. على هذا النحو، يأتي بناء الثلاثية دائرياً: ينطلق من الحلم وينتهي اليه قبل أن يستيقظ وجدان على كابوس الواقع القائم، المفزع.

يستحضر الجزء الأول الحامل عنوان «شارع دغبوس»، لحظات بارزة من طفولة ومراهقة «وجدان» الذي آلت به رحلته الحياتية الى الانغلاق طوال ثماني سنوات داخل غرفته وكأنه في علبة سردين، على حد تعبيره. وهو يرتد الى طفولته ومراهقته بحثاً عن نواة مشكلاته وتعثراته. لقد عاش «وجدان»، المولود في إحدى قرى تنزانيا، قصتي حب: الأولى وهو في الثامنة مع بنت يسميها مانيارا، والثانية مع سوسن حفيدة جدته سلمى في عدن، والتي ستنقلب الى مأساة تلازمه على مر الأيام. من هاتين التجربتين، سيتعلم «وجدان» تقديس المرأة واعتبارها الأفق المخلص. لكن الجرح الأعمق، هو ما لحق «وجدان» من أسرته ومن تجربة الاشتراكية العلمية الفوقية في عدن خلال السبعينات. في محيط العائلة، كانت أمه تسرف في تحصينه ضد اغراءات البنات والعلاقات العاطفية. وكان أبوه المؤذن في أحد المساجد، يطمح الى أن يصبح خطيب يوم الجمعة، فلما تحقق له ذلك، اكتشف أن ليس له موهبة الخطيب، فاضطر «وجدان» وهو في الرابعة عشرة من عمره، الى أن ينوب عن والده في تدبيج وإلقاء خطب صلاة الجمعة، والى ان يرتدي الجلابية والعمامة، ما تسبب له في نفور الفتيات منه ومضايقة عيون «النظام الاشتراكي» لممثل الكهنوت!

أسفرت علاقة وجدان العاطفية البريئة، مع سوسن المطلّقة، عن فضيحة عرضتها للخطر، لأن جعفر حارس بيت الجدة، أبلغ والدة «وجدان» ان ابنها يختلي بسوسن لتقرأ عليه صفحات كتبتها عن قصة حياتها وخيانة زوجها لها... الا ان حبه لنسرين سيظل ثاوياً في الأعماق، وسيعود الى الظهور بقوة بعد عودته من فرنسا واستئنافه البحث عن سوسن المختفية... كان «وجدان» قد تعرف إلى جعفر الدملاني في منزل جدته سلمى ونشأت بينهما صداقة غريبة لأن جعفر شخصية نقيض له، فهو يحب الضحك وتقليد حركات الناس والسخرية منهم، ولا يتورع عن شيء في سبيل تحقيق مكاسب اجتماعية وسياسية على نحو ما تبين ذلك خلال فترة الخدمة العسكرية التي خلّفت في نفس «وجدان» ندوباً لم تندمل. وتشاء الصدف أن يغدو جعفر الشخصية – الضد الملازمة لوجدان، والواقعة على طرف نقيض من مساره ومصيره. ذلك أنه حصل هو الآخر، مثل «وجدان»، على منحة للدراسة في فرنسا، فالتقيا في المطار وأصر جعفر على أن يظل قريباً من «صديقه» الذي بذل ما في وسعه للابتعاد عنه، فاختار «سانت مالو» الواقعة في الشمال الغربي ليبتعد عن جعفر الذي اختار مدينة نيس...

يمكن القول ان هذا الجزء الأول من الثلاثية، هو على مستوى التركيب الفني، بمثابة «رصد مرآتي» يؤشر إلى تطورات لاحقة، ويستبق أحداثاً سنتعرف إلى تفاصيلها في الجزءين التاليين.

في الجزء الثاني، «سانت مالو»، يسرد علينا «وجدان» – دائماً بضمير المتكلم – رحلته العلمية واكتشافه لعلائق مجتمعية مغايرة، واستمرار فشله العاطفي والجنسي. اكتشف في مدينة «فيشي»، خلال تعلمه اللغة الفرنسية، فضاء الطلبة وحرية الاختلاط، غير انه فوجئ بجعفر يلاحقه الى هناك فاحتمله على مضض وواصل دراسته بجد الى أن تمكن من الانتقال الى سانت مالو والالتحاق بكلية العلوم. كان «وجدان» يتحرق الى أن يعيش علاقة عاطفية قوية، لكن سوء الحظ جعله يغرم بإيزابيلا في الوقت نفسه الذي تعلق بها صديقه الفرنسي فردريك: علاقة حب ثلاثية عاصفة في ظل نشاطات سياسية موالية للحزب الشيوعي، والمحبوبة موزعة لا تستطيع الحسم بين عاشقيْها، فيقررون الاحتكام الى ضربة نرد تفصل بينهم، فكان الحظ لفردريك!

في الأثناء، يلتقي «وجدان» بجعفر ومعه روسية عمدها باسم «حفصة»، ممعناً في لهوه ومغامراته، معرضاً عن الدراسة والتحصيل. أخبر جعفر «وجدان» بأن اليمن محتاجة اليه، أي ان قبيلته تريد أن تُنصبه شيخاً ذا نفوذ. يعود جعفر الى صنعاء حيث يغدو صاحب سلطة ونفوذ ومال وفير. أما «وجدان» فيتابع اقامته في سانت مالو لانهاء أطروحة، متحمّلاً خيبته في العشق، معوضاً عن ذلك بالانغمار في متاهات الحاسوب، مبتدعاً شخصية افتراضية سماها «تيماء» وجعل منها خلال خمس سنوات، ولعه وهوسه وعشقه الفاتك! صار «وجدان» يحلم بكتابة: «برنامج كومبيوتر يؤلف لي روايات خيالية. لم أكن أعشق شيئاً في الدنيا أكثر من روايات الخيال...». (ص 225)، ولأن طيف «تيماء» سيطر على مخيلته، فإنه لم يستطع أن ينجح في أي علاقة مع طالبات الكلية، لأن لا واحدة منهن هي مثل «تيماء».

راح «وجدان» يستعين بصديقين من شلته ليمداه ببرنامج حاسوب ينتج روايات حتى يتمكن من رؤية «تيماء» تتحرك داخل فضاء القصة التي يتخيل أنه يعيشها معها. أمداه ببرنامج «شهرزاد» الذي يحتاج الى ان يضخه بمعلومات كثيرة لينتج له روايته. واستطاعت شهرزاد – الحاسوب أن تكتب نصاً يشخص قصة «وجدان» مع «تيماء» المتخيلة ونسرين الكامنة في الذاكرة، لكنه لم يحتمل ما ابتدعته شهرزاد التي ردت على اعتراضه: «آسفة جداً، «تيماء» بالنسبة لي مثل نسرين تماماً، ضحيتان روائيتان بنفس المقام، لا أستطيع أن ألغي احداهما الآن دون أن تتحول الرواية الى مهزلة». (ص 286).

أخفقت، اذاً، جهود «وجدان»، في أن يعيش عشقه المثالي عبر رواية تنجزها شهرزاد الالكترونية بحرية ومن دون اعتماد على أحداث وعناصر تشحن بها. بل ان «وجدان» لم يحتمل ذلك الصراع اللامتوقع بين الشخصية المعشوقة الافتراضية والأخرى «الواقعية» الكامنة في الأعماق... عندئذ، كسر الحاسوب وقرر العودة الى صنعاء ليلتقي معشوقة جنية متجنسة ببني الإنس، بعد أن تأكد من أن لا حظ له مع بنات حواء، متأثراً بما حكاه له أحد الطلبة المغاربة في فرنسا عن أنه قد يكون منذوراً لأن يُناكح بنات الجن فقط!

نلاحظ، في هذا الجزء الثاني، أننا على امتداد ثلاثة فصول، نقرأ ميتاً – رواية من خلال برمجة «وجدان» نماذج تصنع نموذجاً روائياً مفترضاً عبر الحاسوب. وهذا التضعيف النصي يتوخّى اثارة الانتباه الى الأفق المعرفي المتنامي منذ ثمانينات القرن الماضي، ويستحضر بعداً تخييلياً اضافياً يبرز – في شخصية «وجدان» – طابع الرومانيسك باعتباره نموذجاً مضاداً للواقع المألوف عند القارئ.

يكتشف وجدان بعد عودته الى صنعاء (الجزء الثالث)، ملامح البؤس وعجائب الحياة الليلية، وفتنة المعمار التي جذبت سيدة أجنبية، سماها عنانيص، الى تصوير «سمسرة النحاس» التي كان هو أيضاً موجوداً بها... سرعان ما انغمر «وجدان» في استحضار معشوقته الجنية عبر برنامج رقمي يتوسل بالموسيقى الالكترونية بدلاً من الكلمات. وذات ليلة، رأى شبح امرأة ملثمة واقفة بالقرب من الفندق، فظنها من ستدله على بغيته، لكنها كانت هناك لتستدرجه حتى يأتي آخرون لـ»يدقدقوا» عظامه ويستولوا على فلوسه. اضطر «وجدان» حينئذ الى الاستعانة بجعفر الذي أصبح شيخ قبيلته، فزوده بالوصايا العشر لحماية النفس في يمن ما بعد الثورة، وأعطاه عشرة آلاف دولار تعويضاً عما ضاع منه، الا ان حراس جعفر نشلوا منه المبلغ... عندئذ قرر «وجدان» العودة الى منزل أبويه في عدن، وآل به الأمر الى الانحباس داخل غرفة ليتحاشى رؤية البؤس والتدهور، وليتناسى خيباته العاطفية المتواترة. بعد مرور ثماني سنوات على سجنه الاختياري، يحلم ذات ليلة، أنه يذهب برفقة أستاذه نجيب وعنانيص الأجنبية، في رحلة الى مملكة دملان.

في تلك الرحلة الحلمية الى جبال الهملايا ثم الى العاصمة الميثولوجية لمملكة دملان: «تنكاء»، يكتشف «وجدان» حضور وجمال وفاعلية المرأة من خلال عنانيص التي جمعها الحلم بأستاذه الطيب نجيب، ومن خلال المؤسسة الثقافية التي تشرف عليها ناتارين الجميلة. تعلق قلبه بهذه المملكة المطمورة التي تقودها النساء بجرأة وذكاء، خصوصاً عندما استمع الى ناتارين وهي تدعو الى: «احداث تغيير اجتماعي جذري على ايقاع اسطورة تحرك الجماهير»، مبررة ذلك بأن «كل الحركات الاجتماعية والثورات الدينية أطلقت عباراتها الأولى على ايقاع حلم أو أسطورة، وبدأت تغييراتها الاجتماعية رويداً رويداً، في أطر تنسجم مع ثقافة الناس عشية التغيير، ومع ما يتوقون اليه». (ص 495). وخلال تحضير النساء لحفلة تتويج تشومولونجا امبراطوراً على المملكة، تبدى لـ «وجدان» ان الامبراطور المزعوم هو جعفر الذي لم تعجبه الاشادة بمجيء الملكة الموعودة، فوجه بندقيته نحو ظهر مانيارا، تلك الجميلة التي عشقها «وجدان» في طفولته قبل أن تصبح رمزاً للتغيير. لكن ما أثلج صدر «وجدان» هو أنه، خلال جولته مع الأستاذ نجيب وعنانيص، لمح طيف رعية جميلة سرعان ما تكشف عن وجه حبيبته نسرين، فأمضى معها ليلتين سماويتين، وصار انساناً آخر: «صار الكون في ناظري نسبياً، افتراضياً، هلامياً جداً. وهي الحق، المطلق. هي الجذر والمركز، هي البداية والنهاية» (ص 441).

أشرفت الرحلة الحلمية التي اجترحت البديل، على نهايتها فعاد «وجدان» الحابس نفسه داخل غرفة السردين الى الواقع الكالح: «انتهى الحلم فعلاً. ها هو كابوس اليقظة الدائم: شارع دغبوس. ما زال مقفراً، كئيباً، أكثر عبوساً وجوعاً وفقراً وتدهوراً من أي وقت مضى...» ص: 458.

كابوس اليقظة وأسئلة محيرة

استطاع حبيب عبد الرب سروري أن يبتدع في ثلاثية «دملان»، صيغة روائية متعددة الأدراج والطوابق، تزاوج بين فضاءات اليمن وفضاءات فرنسا، بين مشاهد الواقع ومراتع الحلم ومواقع الحاسوب...

وعلى صعيد التركيب الفني، نجد مستويين يتراوحان في التشكيل والحكي:

- السرد المؤسطر للواقع (الرحلة الحلمية، تجربة الحاسوب في برمجة كتابة رواية مؤتمتة، استحضار الطفولة في تنزانيا...).

- والسرد اليسيري للطفولة والمراهقة في عدن، وتجربة الحياة في فرنسا ثم العودة الى اليمن.

وبقدر ما يستبدل السرد المؤسطر التخييل بالواقع، بقدر ما يبدو نموذجاً مضاداً لما هو مألوف في الحياة المعتادة، أي ان الكاتب يصوغ رومانيسكاً مركباً من التخييل الحلمي والافتراضي ومن غرابة شخصيتي «وجدان» وجعفر المتناقضتين والمؤطرتين لحيز القيم السائدة والمتصارعة داخل المجتمع. وهذا الشكل المفتوح، الفضفاض، يتسع للأفكار والانتقادات الكثيرة الكامنة وراء صوغ النص. واذا انطلقنا، في التأويل، من صدمة اليقظة التي دهمت «وجدان» بعد عودته من فرنسا ومعاينته، عبر المقارنة، مدى المسافة الفاصلة بين نموذج المجتمع الغربي المالك لدينامية الفعل والتطور وانتاج المعرفة، وواقع مجتمعه الغارق في منطق القبيلة والغيب والأنساق الوثوقية والوصائية، فإن هذا المناخ يجعل أسئلة الفرد اليمني، تأخذ طابعاً جذرياً يبرز تبادل التأثير بين المجتمع والفرد، بين إرث الماضي وتحديات الحاضر والمستقبل.

لكننا اذا انطلقنا من مسار «وجدان»، الشخصية الأساس، التي وسمها الكاتب بانهزامية شبه قدرية تتحكم في اختياراتها ومواقفها، فإنني أخشى أن نؤول الى تفسير بالجوهرانية يسجن «وجدان» في خانة الطبائع التي تتحكم في الفرد ومصيره.

يكون من الأفضل – والرواية تقدم لنا بتركيبها وتخييلاتها العناصر اللازمة – أن نؤول النص من منظور جدلي يستحضر السياق ويشغل أبعاد التخييل. على هذا الأساس، تبدو رحلة «وجدان» الى فرنسا، انفتاحاً على الحداثة واكتساباً لوعي مغاير للوعي الموروث. الا ان رواسب الطفولة والمراهقة السلبية داخل بيئة قامعة، مراقبة، ومع استمرار سياسة الوصاية والروابط العشائرية، ودونية المرأة، كل ذلك يعطي للبنيات الماضوية القدرة على امتصاص وتعطيل محاولات التحديث ونشر الوعي الجديد.

لا يجد «وجدان»، المأخوذ في هذا الشرك، سوى طريق الحاسوب وابتداعاته الافتراضية لمجاوزة انهزامه المعقد الأسباب، وسوى طريق الحلم الذي يجعل من المرأة الجميلة الذكية، أفقاً للتغيير وتجديد «الأسطورة المؤسسة» لمجتمع العدالة والمساواة...

على هذه الشاكلة، تكون ثلاثية «دملان» قد طرحت بقوة اشكالية الزمن «المتوقف» داخل مجتمع اليمن (وكل المجتمعات العربية ضمنياً)، لأن آليات التعامل معه لا تفضي الى دينامية مغيرة. وفي المقابل، يجعل الكاتب من الحلم والتمرد وحضور المرأة، وسيلة لتحريك ذلك الزمن المتوقف، الدائري، الذي يحول المواطنين مجرد سردين داخل علب عفنة.




  إتصل بنا  |  الإعلان في الموقع  |  عن الموقع   أعلى الصفحة 

مجموعة الاتصالات الاعلامية  © 2003 Media Communications Group