التكرارْ يُعلِّم «الشُّطَّارْ»

حبيب عبدالرب سروري

                           

أودُّ البدء بملاحظتين خفيفتين حول مقال «لايصلها سائح واحد! مبالغة أليس كذلك ياحبيب؟»...

أولاً: لا أذكر أني تعرَّفتُ فعلاً على الأخ المحترم كاتب المقال، كما يقول. صافحني، لا أكثر ولا أقل، في حفلة دفاع عن دكتوراه في علوم الكمبيوتر كنت قد ترأستُ لجنة الإشرافِ عليها في جامعة فرنسية قبل عامين. وحمل لي (أشكره من الأعماق على ذلك) من مدينة فرنسية مجاورة ذات يومٍ (بعد يوم مداخلة اليونسكو الذي تحدَّثَ عنها في مقاله)، خمسة كتبٍ كنتُ بأمسِّ الحاجة لها، دون أن نتحدَّث أكثر من دقيقة واحدة. إذا أسمى هذا تعرُّفاً، فليكن!... عموماً، رأيته شابّاً مهذَّباً، لطيفَ المحيا، لاسيما في اللقاء الأول قبل سنتين...

ثانياً: تحدّث الأخ المحترم عن «خيبة ظن الحضور» من مداخلتي في يوم اليونسكو. لا أعرف عدا إثنين أو ثلاثة أشخاص (لا أود أن اذكرهم أو أتحدَّث عنهم هنا، لأن الموضوع سيطول كثيرا) استاءوا من طرحي في مداخلة اليونسكو الذي ذكرها في مقالته. كلُّ من رأيتهم كانوا شديدي الارتياح لِما قلته لدرجة أخجلتني أحياناً. كثيرون، لا أعرفهم، جاءوا لوحدهم للتعبير عن نفس تلك المشاعر. كونُ الأخ المحترم صاحب المقال يتحدّث عن «خيبة ظن الحضور» في يوم اليونسكو، فأظن أنه يأخذ بتعميمٍ شديد حالتَهُ (ورفيقيه اللذين لا أود أن أذكرهما أو أتحدّث عنهما هنا، لأن الموضوع سيطول كثيرا).

 

أدخل الآن في صلب الموضوع. حول عدد السوّاح لليمن، أظن أنه يعرف أن أعلى رقم قياسي وصل له اليمن كان في بداية التسعينات: 80000 سائح، حسب الأرقام الرسمية، وأنه أنهار منذ ذلك اليوم بشكل تراجيدي. حتى لو أخذناه في أعلى أرقامه، فهو يشكل أقل من واحد في المائة إذا ما قورن بالعشرة مليون سائح لتونس التي تمتلك فعلا شذرات صغيرة من مقوّمات اليمن السياحية، كما ذكرتُ. «أقلُّ من واحد في المائة» في علوم الفيزياء يعني أنه رقم «قابل للإهمال»، «يؤول إلى الصفر»، كما تَعَلَّمْناه في أوّل سنوات الدراسة. ما قلتهُ ليست مبالغة إطلاقا لأن الثمانين ألف سائح الذين عرفَتْهم اليمن في أوجِ مجدِهِا السياحي في بداية التسعينات رقمٌ لا يستحقُّ الذكر فعلاً (يصل عدد السوّاح في فرنسا إلى 73 مليون سائح سنويّاً!)، فما بالكم الآن وقد صارت اليمن جرداء من السوَّاح لأن أكثر من موقعٍ سياحيٍّ دوليٍّ ورسميٍّ على أنترنت يشير لها كدولة غير مضمونةٍ أمنيّاً وينصحُ أن لا يزورَها السائح؟

 

أنتقلُ إلى الموضوع الأثير الثاني للأخ المحترم. قال: «فمؤشر التنمية البشرية باب واسع المتاهة لا يمكن المجازفة في الحديث فيها إلا الخبراء». وقال إني استخدمتُ «أرقاما قديمة» عندما تحدَّثتُ حول مؤشر التنمية في اليمن. ما قاله الأخ المحترم خاطئٌ جدّاً بشكلٍ شديدِ الإثارة! مفهوم هذا المؤشر الاقتصادي بالغ السهولة لدرجة أنه يُدرَّس في المدارس الإعدادية في فرنسا. الأرقام التي ذكرتُها ليست قديمة لأنها أرقام آخر أربع سنوات!...

أكرِّر إذن، لأن «التكرار يعلِّم الشطّار»: كان رقم اليمن في عام 2002 هو 144 في قائمة التنمية البشرية، صار 148 في عام 2003، ثمّ 149 في عام 2004، وأخيراً 151 في عام 2005. (رقم 2006 سيظهر خلال أيام، أنتظرهُ شخصيّاً بقلق!). كلّ هذه الأرقام معروفةٌ للجميع، موجودةٌ على مواقع البنك الدولي على أنترنت، مثل هذا الموقع الذي يضمّ كل التقارير السنوية:

 http://hdr.undp.org/reports

وعددٍ كبيرٍ من المواقع التعليمية والثقافية الموضوعة للعامّة على أنترنت. هناك أيضاً خارطة شهيرة تُعرَضُ وتُدرَّس في المدارس الإعدادية الفرنسية، لكلِّ دولةٍ فيها لونٌ حسب رقمِ مؤشر التنمية في تلك الدولة. يكفي مشاهدة هذه الخارطة (الموجودة أيضاً على مواقع البنك الدولي) لملاحظة أن اليمن هي الدولة العربية الوحيدة ذات اللون الأحمر في هذه الخارطة! يكفي رؤية ذلك ليستوعب الأخ المحترم أن هناك وضعاً مريعاً، شديدَ الخطورة.

أضيفُ: ليس لأن المناهج الدراسية في الدول العربية، واليمن خاصة، عقيمةٌ متخلّفةٌ لا تُدرِّس الطالبَ مفهومَ «التنمية البشرية» البالغَ الأهمية والبساطة لنُعطيَ لأنفسنا الحقّ في مغالطةِ الناس عند الحديث عن الأرقام الكارثية لليمن، والقولِ، مثل صاحب المقال، «أن هذه من شئون المتخصصين». أخاف كثيراً أن سبب ذلك هو الرغبة بإخفاء هذه الحقيقة الدرامية التالية: «لا توجد دولة واحدة هَرْوَلَتْ مثل اليمن خلال الأربع السنوات الأخيرة!». يكفي مقارنة جداول السنوات الأخيرة في الموقع الذي أشرتُ له أعلاه!...

ثمّ لا أظن أن الأخ المحترم يجهل أن أكثر من تسعين في المائة من أبناء اليمن صاروا يعيشون اليوم تحت خط الفقر، وأن الفساد والرشوة وشراء الذمم والمحسوبية صارت تنخرُ مفاصل اليمن، وأن المسئول القريب من مركز إدارة الفساد يغتني بسرعة الضوء والملايين تزداد فقرا ومعاناة وتركض وراء لقمةِ عيشٍ لا تتوفر إلا بشق الأنفس، وقد لا تتوفر أحياناً، وأن الحديث عن كلِّ ذلك سيأخذ صفحات وصفحات، وإن لم يعد يختلف عليه اثنان...

 

أنتقل إلى ملاحظته الختامية: «ربما أن الدكتور حبيب سروري لم يزر اليمن منذ فترة طويلة أو ربما أنه عندما يزور اليمن يبقى منغلقاً في حيّه الحميمي بعدن». أريد تطمينه كثيراً. أزور اليمن كل سنة (إلا هذا الصيف لأسبابٍ غير شخصيّة سأشرحُها ذات يوم!)، عدّة مرات أحيانا في نفس السنة.

حتّى طفلتي الصغيرة، عمبرين، ذات ال12 سنة والنصف زارتها تسع مرّات في العشر سنوات الأخيرة. زارت معظم مُدنِها من زبيد والخوخة وبيت الفقيه إلى المكلا وسيئون وشبام وتريم ووادي دوعن، مروراً بصنعاء وذمار ويريم وإب وأفرس وتعز وعدَن وزنجبار ولودر والبيضاء وكل المدن والقرى الصغيرة التي تحيط بهذه المدن (من ثلا وكوكبان الساحرتين، إلى مدينة هود البديعة، مروراً بنجد النشمة وطور الباحة العزيزتين!). أغلب هذه المدن والقرى زارتها عمبرين أكثر من مرّة.

لهذا السبب بالذات أتحدَّثُ عن اليمن، أيها الأخ المحترم، بحزنٍ عميق!...