أمجاد الملاعق

 

حبيب عبدالرب سروري

 

سبتمبر، أكثر أشهر اليمن سواداً، على الأبواب! فيه تظهر التقارير السنوية للأمم المتحدّة عن «مؤشر التنمية البشرية»، أهم مؤشر علميّ يُلخِّص حياة كل شعب، في مختلف أوجهها الاقتصادية والتعليمية والصحية. أُذكِّرُ أن اليمن حصلت في تلك التقارير على مرتبة 144، 148، 149، 151 خلال أعوام 2002، 2003، 2004، 2005 على التوالي، حسب القوائم التسلسلية التي تضمّ حوالي 177 دولة! أضحت بسبب ذلك الدولة العربية الوحيدة في القائمة الدوليّة السوداء التي تضمّ ما يقارب 30 دولة (مؤشر تنميتها أقل من 0,5) تعاني شعوبها من أفقر مستويات المعيشة وأسوأ الخدمات التعليمية والصحية. ناهيك أن سبتمبر القادم لا يبشر بخير لأن اليمن في وضعٍ اقتصاديٍّ أسوأ، كما يبدو للعين المجرّدة...

يكفي رؤية هذه الأرقام ومعرفة الدلالة الرياضية لمنحنى انحدارها لاستيعاب أن اليمن تسير نحو الهاوية بخطىً سريعة. لاسيما وأن مُهندسي هذه الهاوية «متأبدون»، وبقاءهم «ضرورة تاريخية»، وعليهم «أن يواصلوا ما بدأوه»... غير أنه منذ بدء هذا العام ازدهرت في اليمن وأينعت صناعةُ البلطجة، لدرجةٍ يمكنُ استثمارُها اقتصادياً لنماء اليمن والخلاص من الهاوية! لا أقول هزلاً، لأني سأبرهن على ذلك بعد قليل...

يلزمني أن أُذَكِّر أولاً أنه في نهايات سبعينات القرن المنصرم ظهرت نظريات اقتصادية رائجة تنذر في السنوات اللاحقة بكوارث بشرية وحروب بين سكّان الأرض، لأن مواردها الطبيعية محدودة في حين يتكاثرُ سكَّانُها بسرعة هائلة. أثبت العلم خطأ نظريات أنبياء الكوارث. صار معروفاً أن ما يرسم ويُقنِّن حدود الحياة على الأرض ليست كميّة الموارد والإمكانيات الطبيعية بل مدى الأفكار وحدود المعارف! لا يحتاج الإنسان للفحم مثلاً، كَفَحم. يحتاج للطاقة التي يمكن توليدها بطريقة أو بأخرى: بالفحم، أو بالبترول (الذي كان يعتبر إلى زمن قريب ماءً مُلوَّثاً ليس إلا)، أو بالتفاعلات الذريّة، أو بأي فكرةٍ أخرى. ماء الشرب ليس مشروطاً بالآبار، بل يمكن استخلاصه من البحر أو بوسائل أخرى. الرمل الذي لم يكن له أهمية كبيرة في الماضي، أُستخدم أوّلاً في صناعة الزجاج، وها هو يستخدم اليوم كمادة رئيسة في صناعة الأقراص المدمّجة «سي دي روم»، و«سيليسيوم» أجهزة الكمبيوتر! انعقاد الاجتماعات التي تضمُّ بشراً من أماكن جغرافية متباعدة لم تعد اليوم مشروطة بالسفر، بالإمكان عقدها بطريقة «الفيديوكونفرنس». أنترنت، قبل هذا وذاك، منح البشرية إمكانيات وموارد جديدة لا حدود لها، لم تخطر ببال قبل ذلك...

لعلّ استثمار البلطجة فكرةٌ واعدةٌ هي الأخرى، قد تنقذُ اليمن من منحنى الهاوية التي تسقط نحوها! أضرب مثلَين من مئات الأمثلة التي نعيشها اليوم.

أولها قصّة سجناء القاعدة الفارِّين من سجن الأمن المركزي في صنعاء، عبر نَفَقٍ حفروه بالملاعق، طوله عشرات الأمتار، أدى إلى مسجد، حسب الرواية الرسمية! لا أعرف مصنع ملاعق في العالم بإمكانه ادعاء أن ملاعقه تمتلك هذه المواصفات الفيزيائية والصلابة الخارقة. لا بدّ أنها ملاعق محليّة! ما الذي يمنع الدولة إذن من الترويج التجاري للملاعق اليمنية؟ ألن يؤدي ذلك بالضرورة لِبيع أكثر من أربعة مليار ملعقة، لجميع سكان المعمورة، بأكثر من أربعة مليار دولار على الأقل، ستسهم إيجاباً في إعمار اليمن؟...

المثل الثاني استخلصه من هذه الانتخابات الرئاسيةِ الحافلةِ، في الحقيقة، بألف مثال من نفس النوع. أستعير مثلي من مقال قرأته قبل لحظات، اليوم (14 يونيه)، في صحيفة «مؤتمرنت»، موقع الحزب الحاكم في اليمن على أنترنت، بعنوان: «شباب صَعْدَة يُقاضي رئيس الجمهورية لعدم تجاوبه»، والذي يشرح أن شباب صعدة رفعوا قضية ضد رئيس الجمهورية معتبرين عدم ترشيح نفسه «غير مبرر، وغير قانوني»!

لا أدري متى ستبدأ المحاكمة، لكني أثق أن تصويرها سيدرُّ على اليمن بثروات هائلة. لنتخيّل فيلماً يبدأ بمنظر شباب صعدة على يسار القاضي، ورئيس الجمهورية على يمينه. ماذا لو نجح شباب صعدة في مرافعات هذه المحاكمة وحُكِمَ على رئيس الجمهورية (وسط ذلك الفيلم) بالأعمال الشاقة: رئاسة اليمن من داخل الزنزانة لمدة سبع سنوات إضافية؟...

سيكون لهذا الحكم، دون شك، مردودات بالغة ستُطوِّر الاقتصاد الوطني كثيرا. أوّلاً: ستُوقِف هذه المسرحية (رئيس «يتخاشف» عن مواصلة الحكم، وشعب «يُحَايِل بُه» ليل نهار) التي يعرف الجميع كم هي مُفتَعلة وهزلية. ناهيك أنها تُكلِّفُ اليمن ملايين الدولارات، إذا أخذنا فقط تكلفة عقد مؤتمرين للحزب الحاكم خلال ستة أشهر فقط، لكلٍّ منهما حوالي ستة ألف مندوب: أضعاف مندوبي مؤتمرات الحزب الشيوعي الصيني... بالتأكيد، لو لم تكن مسرحية ساذجة وباهظة الثمن لَما توانى لأدائها لحظةً واحدة كلُّ رؤساء العرب، بنفس الطريقة، ولما اكتفوا بحلولٍ أقلّ نفاقاً مثل تأبيد ترشيحهم، أو تعديل الدستور، حسب المقاس، لتطويل حكمهم قبل توريثه لفلذات أكبادهم...

ثانياً: هذا الفيلم السيريالي نفسه سَيُدِرُّ على اليمن أرباحاً طائلة، لاسيما إذا انتهى بمنظر رئيس الجمهورية وهو يحفر نَفَقَاً بملعقة يَمنية (سيُضاعِفُ بذلك من تصدير الملاعق اليمنية للخارج)، لِيَهرب من زنزانته التي يترأس منها اليمن، وهو يرى أنها أضحت قاب قوسين أو أدنى من أن تقبع في ذيل قائمة الأمم المتحدّة الخاصة بمؤشر التنمية البشرية!...