«طائر الخراب» والعسكريُّ المتطرِّفُ في رومانسيتِه!

 

حبيب عبدالرب سروري

 

       الحق، أعتبرتُها في البدءِ دعابةً ثقيلة، مؤلمةً بالضرورة، عندما عرفتُ أن مسئولاً أمنيّاً في مطار صنعاء مَنعَ قبل حوالي ثلاثة أسابيع مريضاً في القلب، مسافراً للعلاج في فرنسا، من دخولِ الطائرة، لأنه يحملُ عشرةَ نسخٍ من رواية «طائر الخراب»! بدأ الجدلُ بينهما عندما قال العسكريُّ: «لو كان الكاتب أديباً فعلاً لأسمَى كتابَه: طائر الحب، أو طائر الأشجان!». أضاعَ المسافرُ العزيزُ، صاحبُ «مكتبة الشعبي» بصنعاء، رحلتَهُ بسبب ذلك! إلى آخر القصة الحزينة المعروفة... كان تعليقي المباشر حينها: في الدول القمعية تُمنَعُ بعضُ الكتب من الدخول إلى المطار، أما منعُ كتابٍ منشورٍ داخل بلدٍ ما من الخروج من المطار فهو حدثٌ استثنائيٌّ مثيرٌ جداً، يلزمُ الاعترافُ بأسبقيّتهِ وتميُّزِه!...

غير أني كنتُ سعيداً في أعماقي لأن العسكريّ العزيز استطاع قراءة العنوان! ما لُمتُهُ عليه فقط هو أنه عبَّرَ عن ذوقِهِ الرومانسيِّ الرقيق في عناوين الكتب، بِشَنِّ هجومٍ ذوقيٍّ قمعيٍّ عنيف، وهو يمنعُ خروجَ كتابٍ لم يستسغْ عنوانَه! كان بُودِّي أن أقول له إن عنوانَيْهِ «طائر الحب» و«طائر الأشجان» جميلان حقّاً، لا ينقصُهما إلا كتابةُ نصٍّ آخر غير نصِّ تلك الرواية... كان بُودِّي أن أُذكِّرَهُ أيضاً أنه عندما شنَّ أحدُ عمالقة الأدب المعاصرين ما أسماها «حربُ الذوق» على بعضِ الأنماطِ الأدبية، شنَّها عبر كتابٍ ضخمٍ، ظهر قبل سنةٍ فقط، أسماهُ: حرب الذوق، La guerre du goût، وليس بِمنعِ كتابٍ من الخروج من المطار...

       ثمَّ عندما أُوقِفَ صديقي، شفيق عبدالمجيد، في نقطةٍ عسكريّةٍ على مشارف عدَن وهو عائدٌ من صنعاء إليها بأوَّلِ 20 نسخة من الرواية، ودار جدلٌ ومراوغاتٌ وتدخلاتٌ استطاع بعدها بذكاء إدخال أوَّلِ 19 نسخةٍ من الرواية لِعدَن، سعدتُ قليلاً! سعدتُ كثيراً في الحقيقة لأنها لم تُمنعْ على الأقل من الوصول إلى عدَن، مما يؤكد بقطع أنهم، في آخر التحليل، لا يعتبرون تلك المدينة خارج خارطة اليمن!...

وأخيراً عندما تكرَّر منعُ خروجِ الرواية مرّةً ثانية، من مطار صنعاء في الأسبوع التالي، ورُفِضَتْ كلُّ النسخِ في المطار من جديد، أدركتُ قتامة ما حدث! شعرتُ أنها لم تكن فقط نزوةُ عسكريٍّ مفرطٍ في رومانسيته! هي أهول من ذلك بكثير: هي «شيءٌ ما يُشبِهُ القمع»!... تحسَّرتُ حينها في سريرتي على الأيّام الخالية! أيّامِ أُميَّةِ العسكر! قلتُ لنفسي: سقى اللهُ تلك الأيّام! كانوا حينها يحترمون القانون، بلا وعيٍّ على الأقل. أما اليوم فبإمكانهم قراءةُ عناوين الكتب ومنعُها من الخروجِ بشكلٍ لا قانونيٍّ خالص!...

غير أن أُميَّتهم في التكنولوجيا الحديثة، أدامها الله، مازالت كليّةً كما يبدو! لا يعرفون حتى الآن أن الرواية موجودة على أنترنت على هذا الموقع: http://abdulrab.free.fr، وأن أي إنسانٍ، في أيِّ مكان في العالم، يمكنُهُ متى ما أراد قراءتها كاملةً فيه، أو شحنَها منه من الغلاف إلى الغلاف. أشكرُهم كثيراً أيضاً لأن توقيفَهم للرواية شدَّ البحث عن نُسخِها بشكلٍ لم أكن أطمح به من قبل، وضاعفَ من عَدَّاد شحنِها من ذلك الموقع!...

ثمَّ صار لِمُجمَلِ هذا الحدث في دماغي بُعداً فنيّاً أوسع، وتحوَّل إلى مادةٍ أدبيّةٍ خامّةٍ غنيّة، عندما علمتُ في صباح الأحد 5 فبراير، من صحيفة «الأيام»، بأن خمسة وعشرين من معتقلي «منظمة القاعدة» في اليمن هربوا من السجن عِبر نفقٍ أدّى إلى مسجد، كما يقال! كما لا يحدثُ إلا في رسومات «لوكي لوك» التلفزيونية المتحركة! كما لو لم نكن أمام سجناء من نوعٍ خاصٍ جدّاً يُهِمُّون دول العالم أجمع! كما لو لم يهرب هؤلاء من سجن الأمن السياسي في العاصمة: الحصن الحصين لِلدولة! كما لو لم يهرب شركاء هؤلاء السجناء من السجن قبل سنين قليلة!... اكتملَ البعدُ الفنيُّ للحدث! صار بِرمَّتهِ مفارقةً جديدة لم أجد لها حتّى الآن عنواناً أفضل من: «الطائر في القفص، والقاعدة تترندع في الفضاء!»...

مفارقةٌ جديدة، في بلدٍ يصنعُ حكَّامُهُ أمَّ المفارقات العصريّة وأكثرَها سيرياليّةً وتراجيدية في رأيي الشخصي، عندما يتحدَّثون ليل نهار عن ديموقراطية «صناديق الاقتراع» في اليمن، ويواجهون في نفس الوقت كلَّ مظاهرات الجياع والرافضين لزيادة أسعار الخبز أو البنزين، في السنوات الأخيرة، بالرصاص الحيّ! من يستطيع أن ينسى كيف انتهت آخر تلك المواجهات بسبعة وثلاثين قتيلٍ، قبل أشهر فقط!... حتى أكثر الدول قمعاً في العالم، حسب معرفتي، لم تتجرأ في السنين الأخيرة إطلاق الرصاص الحيِّ على مظاهرات جياعها!...

إعذروني إذا كرَّرتُ هذا السؤال الجوهري العميق الصادق: هل تعرفون بلداً وحيداً في العالم يطلقُ حكَّامهُ اليوم الرصاصَ الحيَّ على مظاهرات الجياع؟...